قَبْلَ آلَافٍ مِنْ السِّنِينَ وَقَفَ رَجُلٌ عَصَفَتْ بِهِ أَفْكَارُهُ تَائِهًا بَيْنَ مَاهِيَّةِ خَالِقِهِ وَأَحْوَالِ قَوْمِهِ وَمَدَى صَوَابِ فِعْلِهِمْ ..فَهَبْ إِلَى الصَّحْرَاءِ وَفِي جُعْبَتِهِ أَحَادِيثُ مُضْطَرِبَةٌ يُوَزِّعُهَا عَلَى الْقَمَرِ وَالشَّمْسِ وَكُلُّ مَا يَسْتَبِينُ إِبْدَاعَهُ .عَلَّهُ يَجِدُ ضَالَّتَهُ وَيَعْرِفُ إِلَهَهُ فَيَهْنَأُ بِيَقِينِهِ.. حَتَّى وُجِدَ مِنْ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ إِدْبَارًا .. فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا دَرْبٌ تَنْقَادُ لَهُ الطَّبِيعَةُ وَتَتَّصِفُ بِهِ وَأَنَّ هُنَاكَ مِنْ رَسْمِ مَعَانِيهَا وَتَجَلَّى فَوْقَ كُلِّ وَصْفٍ وَرَسْمٍ ..
كَانَ هَذَا الرَّجُلُ هُوَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ..مِنْ مِنَّا لَمْ يَقِفْ مِثْلَ مَوْقِفِهِ يَوْمًاً أَوْ رَغِبَ فِي ذَلِكَ.
هَلْ سِرْتَ عَلَى خُطَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ كَيْفَ سَارَ بِتَسَاؤُلَاتِهِ بَيْنَ الْكَوْنِ يُحَادِثُهُ بِفُضُولٍ وَغَضَبٍ وَهْمَةٍ وَاضْطِرَابٍ .. كَيْفَ تَسَامَرَ مَعَ الْقَمَرِ وَتَحَاجج مَعَ اللَّيْلِ وَتَنَازَعَ مَعَ الشَّمْسِ
حَتَّى وَصَلَ إِلَى حَقِيقَةِ خَالِقِهِ وَهَدَفِ ذَاتِهِ وَخَلْقِهِ .. فَالْكَوْنُ دَلِيلٌ إِلَى الْخَالِقِ وَعَلَيْهِ .. وَالصُّنْعُ دَلِيلٌ عَلَى الصَّانِعِ .
فَإِنْ قَرَّرَتْ يَوْمًا أَنْ تَخْلُقَ حِوَارًا مَعَ الطَّبِيعَةِ وَتَسْتَأْنِسَ بِهَا
فإن النُّجُومُ س تُخْبِرُكَ إِنْ نَظَرْتَ بِرُوحٍ مُحِبٍّ لَنْ تَرَى صِغَرِي وَإِنَّمَا سَتَتَرَنَّمُ بِأَنْوَارِي .. وَإِنْ نَظَرْتُ إِلَيَّ بِكَرَاهِيَةٍ سَتَهْجُو رُفْقَتِي لِلظَّلَامِ
ثُمَّ سَيُخَاطَبُ تَأَمْلُكَ الْقَمَرِ.. أَيَا قَمَرٌ هَلْ مِنْ وُصُولٍ لِلْكَمَالِ؟
وَمَنْ ذَا يَتَّصِفُ بِهِ إِلَّا خَالِقٌ كُلِّينَا مَنْ تَفَضَّلَ عَلَيْكَ بِالْعَقْلِ وَجَلَانِي بِالْبَهَاءِ.. إِنْ كَانَ نُورِي يُوهِمُكَ بِتَمَامِ صِفَاتِي فَأَنْتَ لَمْ تُدْرِكْ حِكْمَةَ الْخَلَاقِ .. رُبَّمَا كَانَ ضِيَائِي مُمَيِّزًا وَلَكِنْ أَكُونُ بَيْنَ هَذَا وَذَاكَ دَائِمًا .. تَارَةً مُكْتَمِلًا وَتَارَةً نَاقِصًا
تَارَةً كَعَرُوسٍ مُنِيرَةَ لَايَخْفَى دَلَالُهَا وَتَارَةً كَمِصْبَاحٍ عَادِي .. لَا أَعْرِفُ سِوَى أَ.نِّي قَمَرٌ وَسَجيَتِي لَا تَتْقِنُ غَيْرَ هَذَا
تَقُولُ لِلشَّمْسِ .. بِكَ تَعْرِفُ الْأَشْيَاءَ دَلِيلَهَا فَكَيْفَ أَسْتَدِلُّ عَلَى أَهْدَافِي ؟
فَتَقُولُ الشَّمْسُ أَوْجَزُ التَّعْبِيرَ فَأَرُدُّ بِأَنِّي بَرِيقٌ يُعْطِي لِلصُّوَرِ وَالْأَشْيَاءِ جَمَالِيَّتَهَا وَوُضُوحَهَا وَلَكِنَّهُ بَرِيقٌ مِنْ الشَّفَقِ إِلَى الْغَسَقِ.. بِإِمْكَانِي الْغُرُورِ لَكِنَّ الْقَمَرَ يَتَحَدَّثُ فَيَصْمُتُهُ .. بِإِمْكَانِي الطَّمَعُ فِي هِبَاتِ غَيْرِي لَكِنَّ بَرِيقِي يَعْرِفُ كَيْفَ يُثَنِينِي
فَتَجْعَلُ تَأَمَلِكَ يَتَوَجَّهُ إِلَى السَّمَاءِ آمِلًا أَنْ تَكُونَ هِيَ الْجَوَابَ الَّذِي يَرُوقُ لَهُ .. تُنَادِيهَا أَيًّا مَنْ عَرِفَ بِهَا السُّمُو وَ ازْدَانَتْ بِهَا الْعَلْيَاءُ وَاتَّخَذَهَا الْخَلِيقَةَ خَيْرَ رَفِيقٍ وَكَتَبَ فِي رَوْنَقِ حُضُورِهَا الشُّعَرَاءُ وَاسْتَلْهَمَ مِنْ دِقَّةِ صَنَعَهَا الْعُظَمَاءُ وَكَانَ خَلْقُهَا خَيْرَ بَاعِثٍ لِتَسْبِيحِ الْأَتْقِيَاءِ الْأَوْلِيَاءِ
كَيْفَ أَسْمُو بِطَبِيعَتِي وَأَشْبَهُكَ فَأَعْرِفُ الْمَنَاقِبَ ؟
تَقُولُ السَّمَاءُ أَنَا وَإِنْ كَانَ جَمَالِي يَتَهَلَّلُ بَيْنَ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ وَإِنْ كُنْتُ أَتَفَنَّنُ فِي لَوْحَاتِي الَّتِي تَرَاهَا وَتَتَّخِذُنِي عَوَالِمَ الْإِبْدَاعِ مَلْجَأً لَهَا .. إِنْ كُنْتَ لَوْحَةَ الْبَهَاءِ وَلَوْحَةَ الْغَيْثِ وَلَوْحَةَ التَّنَاغُمِ .. إِلَّا أَنِّي أَعْرِفُ چيَدًا مَعْنَى التَّنَاقُضِ عَدَاوَةَ السَّحَائِبِ حَتَّى يَكُونَ الْغَيْثُ وَتَنَازُعَ الظَّلَامِ وَالنُّورُ حَتَّى يَكُونَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ .. وَكُسُوفُ الْأَشْيَاءِ وَخُسُوفُهَا
أَعْرِفُ چيَدًا أَنَّ الْحَسَنَ لَابُدَّ لَهُ مِنْ دُرُوبٍ وَصِعَابٍ تَرِيْهِ كَيْفَ يُقَدَّرُ مَعْنَاهُ وَقِيمَتُهُ
تَمَلُّ مِنَ الْأَجْوِبَةِ الَّتِي لَا تُسْمِنُ جُوعَ مُرَادِكَ فَتَسِيرُ إِلَى حَيْثُ يَكُونُ النَّهْرُ تَجْلِسُ عَلَى ضِفَّتِهِ مُتَنَهِّدًا تَهُمُّهُمْ عَلَى خَجَلٍ .. إِنَّ جَوَابِي حَتْمًاً يَسِيرُ عَلَيْكَ فَتَقُولُ أَيًّا رِقْرَاقًا كَيْفَ تَطَوعُ لِي الطَّبِيعَةَ فَأُنَاغِمُهَا وَتُنَاغِمُنِي وَأَكُونُ مِثْلَكَ جَارِيًاً لَا أَلْتَفِتُ إِلَيَّ الْأَوْدِيَةَ وَأَغْوَارَ الْجِبَالِ وَالْبُودَايْ ؟
يُلْقِي النَّهْرَ قَوْلُهُ فِي عَجَبٍ .. أَوْ لَا تَرَى انْحِسَارٌ مَائِيٌّ وَتَدَلُّلَ الْمَطَرَ فِي مُرَافَقَتِي وَحِينَ تُزَمْجِرُ كُلُّ الْكَائِنَاتِ الَّتِي كَانَتْ تَتَرَنَّمُ بِنَدَى حُسْنِي وَخَيْرَاتِي .
تْرَكْنَ إِلَى الْكَوْنِ وَتَنَصَّتْ إِلَى الزُّهْرِ وَالطَّيْرِ وَالنَّخْلِ وَالْخَيْلِ وَإِلَى كُلِّ شَيْءٍ يَرْسُمُ لَوْحَةَ وَاقِعِكَ.. يَنْشِدُ إِلَيْكَ كُلَّ شَيْءٍ بِأَنْغَامِ حُسْنِهِ وَفِطْرَتِهِ .. فَتَقْتَبِسُ مِنْهَا لَحْنًا تَرَدُّدَهُ عَلَى اسْتِحْيَاءٍ
حَتَّى تَكُونَ لَكَ أَرْجُوزَةٌ وَقَصِيدَةٌ أَوْ حَتَّى بَيْتِ شَعْرٍ تُعَبِّرُ بِهِ عَنْ نَفْسِكَ تَمَامًاً مِثْلُهَا..
ظَنَنْتُ أَنَّ الْفَرْدَ يَحْتَاجُ زِينَةً عَجِيبَةً حَتَّى يَتَفَرَّدَ بِأَصَالَتِهِ
ثُمَّ وَجَدَتْ أَنَّ غَرْسَ الْفِطْرَةِ فِي كُلِّ مَرْءٍ إِنْ حَسَنَ يَفْرِضُ نَفْسَهُ .. فَإِذَا تَكَامَلَتْ النَّفْسُ تَكَلَّمَتْ .. وَإِذَا تَكَلَّفَتْ بِغَيْرِ مَا أُنْشِئَ لَهَا
إِذَا كُنْتَ نَاظِرًا إِلَى شَيْءٍ فَاسْتَمِعْ إِلَى فِكْرِكَ .. فَإِنَّنَا نَنْظُرُ إِلَى الْأُمُورِ بِمَا نُفَكِّرُ لَا بِمَانَرَى .. وَالْأَفْكَارُ صُوَرُ الْأَعْيُنِ
-
سهيلة الحسنكاتبة مقالات أدبية ودينية واجتماعية .. محبة للفن أينما كان