لقد كانت عودتي من بعيد بعدما كان الفشل هو المسيطر على حياتي ظننت فيه أن مشواري الدراسي قد انتهى بعدما تم طردي من المدرسة وعرفت بعدها ماذا يعني أن تجد نفسك في الشارع الذي لايرحم ، فبدون علم ولا معرفة ولا حرفة سيجد المرء نفسه تائها يبحث عن ذاته ، رأيت أحلامي التي صنعتها وأنا صغير تتبخر فجأة ، ظننت وقتها أن مستقبلي في مكان آخر بعيدا عن الدراسة ومقاعدها ، لكنّ الله يسيّر حياتنا ولايخيب من توكل عليه أبدا ، فقد كان لدعائي إلى اللّه في ذلك اليوم العسير الذي طردت فيه من المدرسة بأن يوفقني بالدراسة في الجامعة يوما ما أثر كبير في تحويل مسار حياتي بالكامل ، وقد قادتني زيارة مريض قبل يوم واحد من غلق التسجيلات عبر المراسلة في تغيير قراري بالكامل والمحاولة مرّة أخرى بعدما حكمت على نفسي بالفشل وكانت لتجربتي هذه أثر كبير على نفسي وزادت درجة إيماني وتوكلي على الله .
بدأت بعدها خطواتي الأولى في الجامعة وبدأت أتعرف على نمط وأساليب الدراسة فيها فهنا الطالب يكتسب حرية أكبر فهو الذي يسيّر وينظم وقته وأغلب الأوقات الحضور غير اجباري في المحاضرات وتأثير الأستاذ ليس كبيرا بقدر تأثير مجهودات الطالب الشخصية ، وبالنسبة لي فهذا أمر لايشكل عائقا لأنني تعودت على الدراسة بمفردي ، رغم أني وجدت بعض الصعوبات ليس لمستوى الدراسة لكن لكثافة المحتوى والمواد المدرّسة ، بالإضافة إلى أنني سجلت في الدروس المسائية لأدرس اختصاص آخر وقد لاحظت أن الدراسة في الجامعة تختلف عن الدراسة في الأطوار التعليمية التي سبقتها فهنا لايكفي الذكاء ولا امتلاك المعلومات لتحصيل نتائج جيدة في الإختبارات كما كان من قبل بل الأهم طريقة الإجابة والإحاطة بالموضوع من كل جوانبه ، وكانت جل أيام هذه الفترة أقضيها في الجامعة نهارا وفي المعهد مساءا ومع ذلك فقد تمكنت من تسيير الأمور .. ، وبعد أربع سنوات من الدراسة التي انقضت بسرعة تمكنت في الأخير من نيل شهادة الليسانس في القانون بالإضافة الى شهادة أخرى في تسيير الموارد البشرية والحمد للّه.
ولا أخفي أنه في الأشهر الأخيرة قبل اتمام دراستي تملكني قلق كبير ناتج عن التفكير في مستقبلي بعد الجامعة ، فنسبة البطالة مرتفعة في البلاد والتشائم يخيّم على أحاديث المتخرجين بخصوص إمكانية إيجاد عمل مناسب في اختصاصهم الدراسي وأسمع من هنا ومن هناك عن الكثير من الأشخاص الذين غرقو في البطالة فلم تنفعهم دراستهم في شيء بل هناك من ندم على تضييع وقته في المدارس والجامعات ، فالواحد منهم تجده شارك في مئات مسابقات التوظيف خلال سنوات لكن بدون جدوى ، و الأمر الذي زاد من درجة الضغط علي هو أن البلد الذي أعيش فيه يفرض أداء الخدمة العسكرية على مواطنيه وبدونها لا يمكن قبول توظيفه ، وبالنسبة لي فأحوز على وضعية قانونية إزاء ذلك لمدّة 6 أشهر فقط وعليه يجب الحصول على وظيفة خلال هذه المدّة والاّ فالأمور ستصبح معقدة .
وقد حدث بمجرد تخرجي من الجامعة أن تم فتح مسابقة لدى احدى الإدارات الحكومية وبخصوص شروط التوظيف فيها يجب توفر الخبرة وأقدمية الدبلوم بالإضافة الى شروط أخرى ، وبالنسبة لي فلا أتوفر على أدنى هذه الشروط ورغم ذلك فقد تفاءلت خيرا ووضعت ملف ترشحي وقد كانت أوّل مرّة سأشارك فيها في مسابقة توظيف ، وقبل اجتياز المسابقة بأيام أتى إلي أبي وأخبرني أنه يعرف أحدا يعمل هناك ويشغل منصبا يمكنّه من مساعدتي وأعطاني رقمه لأتصل به وألتقيه قبل إجتياز المسابقة .
أتى يوم المسابقة ولسوء حظي كنت مريضا حتى أني لم أنم ليلتها ورغم ذلك فقد توجهت لأشارك فيها وفي الطريق لذلك كان شيء يشغل بالي كثيرا لم تكن أسئلة الإمتحان هي التي تشغلني بل الشخص الذي أرسلني إليه والدي ليساعدني في النجاح كنت مترددا في أن ألتجأ إليه لأنه باستعمالي للواسطة قد أتسبب بهضم حق بقية المترشحين وقد يكون فيهم من هو أجدر مني بالمنصب وكنت أخاف اللّه في ذلك ، وصلت لمكان إجراء المسابقة والتي هي عبارة عن أسئلة شفهية بالإضافة إلى تنقيط الخبرة وأقدمية سنة التخرج ...الخ ، ولما قربت من الوصول إلى الشخص الذي سيساعدني وقد كانت تفصلني بضعة أمتار عن مكتبه فجأة تراجعت وعدت أدراجي وقلت في نفسي كيف لي أن أغضب اللّه وأكسب رزقي بالحرام من البداية كيف أتكل على الأشخاص وأترك اللّه القادر على كل شيء ، فتوكلت على اللّه ودعوته بأن يوفقني في ما أصبو اليه وأن لاحول ولاقوة لنا إلاّ به ، فذهبت وجلست مع المترشحين إلى أن حان دوري فتم مناداتي وكانت الأسئلة سهلة بالنسبة لي وقد أجبت عليها بشكل جيد .
مرّت ستة أشهر كاملة عن فترة اجتيازي لهذه المسابقة ولم يتبق لي أمل في ايجاد عمل يناسب تخصصي إلاّ فيها وقد كان بإمكاني ضمان النجاح لو التجأت الى ذلك الشخص العامل هناك لكن خشيتي من اللّه منعتني وجعلتني أتوكّل عليه وحده فقط ، وصل يوم إعلان النتائج فتوجهت صباحا إلى مكان الإعلان عنها ولم أكن تحت أي ضغط لأني ببساطة لم أعلق أملا كبيرا عليها ، قرأت قائمة الناجحين فلم أعثر على اسمي من ضمنهم لقد كان الأمر متوقعا ، لكن هناك أمر غير متوقع وجدت قائمة إضافية تتضمن إسمي فلم أصدق أني نجحت ربما ليست قائمة ناجحين ، سألت أحد الموظفين هناك فأجابني بأنها قائمة إضافية لأشخاص في الأصل لم ينجحو لكنهم يحتاجون بصفة عاجلة لموظفين آخرين ولربح الوقت استغنو عن تنظيم مسابقة أخرى وقررو زيادة عدد الناجحين ، كانت فرحتي كبيرة بذلك وشكرت اللّه الذي وفقني رغم أني لا أملك خبرة ولا أحوز على أي من الشروط الموضوعة للنجاح في هذه المسابقة لكن اللّه على كل شيء قدير وقد كافئني لأني رفضت المحسوبية وتوكلت عليه وحده ، وقد كان والدي الذي توفي بعد عامين من هذا التاريخ رحمه اللّه وهو الذي عاش معي هذه الحياة بلحظاتها وكان مطلعا ومرافقا لخطواتي فيها ، فقد كان يقول لي دوما إن اللّه يسيّر حياتك ويخبأ لك من الخير ما لاتتوقع فتوكّل عليه فقط .