نصل إلى مرحلة من الحياة نشعر فيها بالحيرة. لا نعرف تحديدا ما الطريق الذي نريد أن نسلكه. ما بين الدين و الحياة، ما بين الطموح و الرضا، ما بين قدرتنا على الاختيار و القدر. ما بين الطاقة و المؤثرات الخارجية، ما بين التغيير و التعود، ما بين التجديد و المسايرة، ما بين النفس و الآخر، ما بين الافتراضي و الواقع، ما بين الآن و غدا، ما بين المشاعر و الحقيقة، ما بين الرقة و القسوة، ما بين الفهم و التطبيق، ما بين التحكم و السعي أو الإفلات، ما بين أن تذهب نحو الأشياء أو تتركها تأتي إليك. ما بين كمية الجهد الذي ينبغي أن تبذله، ما بين الموازنة و التطرف، ما بين كبرياء النفس و التغاضي، ما بين الصمت و الكلمات، ما بين الجسد و الروح، ما بين الإحساس و التعايش، ما بين المادة و سلام النفس، ما بين الإفصاح و الكتمان، ما بين الفرد و المجتمع، ما بين مصلحة النفس و مصلحة الجماعة.
نصل إلى مرحلة لا نعود نعرف من نحن حقيقة! هل جوهرنا الداخلي و قيمنا و الصور التي تتكون في مخيلتنا لتخلق تجاوبنا مع الأشياء؟ أم الشخصية التي يفرضها تجاوبنا المختلف أمام الأشياء و التي لا تشبه أحيانا التصور الذي نحمله في عمقنا؟ و ما مسؤولية الذات في ما آلت إليه ؟
نصل إلى مرحلة لا نشبه من نكون و إن كنا نعرف من نحن. لا نأخذ ما يكفي من الخطوات كي نصبحه، لأننا لا نأبه بالنتائج النهائية، تكفينا لحظة صغيرة غامرة مجهولة لا يصل إلينا فيها أحد.
نصل إلى مرحلة تفوق مرحلة الوعي، مرحلة الوعي المتأخر بالذات، أو الوعي المسبق بها الذي يأخره الوعي باللاوعي. نتأخر في أن نصبح من نكون لأننا نعرف أنه يأتي من جراح غير مفتوحة.
نصل إلى مرحلة نريد فيها أن نختبئ من كل الأشياء و ننظر إلى أنفسنا حقيقة، نجردها من كل الأحاسيس العالقة، نفتح الندوب كي نعقمها، نفتح مراكز الوعي كي تتدفق الصور، في خيالات، في توجسات، في كوابيس، في كتابات فارغة. نفتح الندوب بجرأة متأملين آثارها مع الوقت أن تمحى.
نصل إلى مرحلة الإيمان بالذات، المرحلة التي تؤمن فيها بحق نفسك عليك، بعد الكثير من القرارات الخاطئة، و الأحاسيس السلبية، و التعلقات المريرة، و الأسئلة المفتوحة. نقف ذات يوم أمام المرآة لنسائل أنفسنا. ألم نخلق لنعيش ؟ لنتنفس؟ لنسعد ؟ ألا نستحق أن نعيش بطريقة أفضل؟ ألا نستحق أن نصفق لأنفسنا عن كل تجربة خضناها و عن كل سلم نجاح تسلقناه و عن كل درس تعلمناه؟ ألا نستحق الأفضل من فرص الحياة؟ و الأفضل من الأشخاص كي يحيطوا بنا؟ و أفضل الإمكانيات و أجمل الأحاسيس؟و حين نجيب بنعم تصبح بعدها كل محطات الحياة أسهل !
نرجع بعد التجربة، و فهم أوسع، إلى المرحلة الأولى من الإيمان بما فوق الذات، خالقها، و صانعها، الله الذي قدرها و أراد بك خيرا حين ألهمك أن تزكيها لتفلح. نرجع إلى الله بعد دورة كاملة. لأن التغيير يأتي منه و الخير منه و الشر منه و الضحك منه و البكاء منه، و السقم منه و الشفاء منه، و لأن حكمته أبلغ، و معرفته سابقة، و رحمته أشمل و عفوه متاح، و مغفرته واسعة، و لأن الأسباب منه، و القدرة منه، و الطاقة منه، و الدعاء منه، و الاستجابة منه، و الحرمان منه و الوصول منه، و كل شيء منه و إليه.
نرجع إلى الله بعد دورة كاملة، لأن الله يريد أن يعطي و يريد أن يدهش، و يريد أن يبارك ويزيد، و يريد أن يرضي، و يريد أن يمن. لكن الأيادي هي المغلقة، و القلوب هي المتضايقة، و النفوس هي الضيقة، و التفكير هو المحدود و الذات اعتادت أن تبقى واهنة.
نرجع إلى الله بعد دورة كاملة لأن الضلال انتشر، و السخط عم، و الآراء كثرت، و الحريات تشعبت، و الأفئدة طغت، و طقوس العبادة تشوهت و الحيرة شاملة. و لأن تضيع على الإنسان دنياه أهون من أن يضيع عليه دينه فلا يقبل منه.
نهيلة أفرج
-
Nouhaila Afrejأستاذة و كاتبة مغربية
التعليقات
صفحتى على رقيم
https://www.rqiim.com/agwad
ومدونتى روائع الفكر
https://rwaealfekr.blogspot.com/
( خلق الانسان فى كبد ) ، ( ونفس وماسواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ) ..تحياتى لرؤيتكم وتحليلكم وكل التقدير .
لأن تضيع على الإنسان دنياه أهون من أن يضيع عليه دينه فلا يقبل منه. ما اجملها من عباره !صدقتي