في منتصف العجلة
في كل وقت وفي كل زمان دائما هناك شهود يقفون في وسط العجلة التاريخية لأي مجتمع , يشهدون على ما مضى , وينتظرون الشهادة على ما هو آتٍ , وربما لو كان هناك مقياس لمستوى الدهشة أو الإنكار أو الاستغراب أو السخط , لكانت نفس المستويات تتشابه برغم اختلاف الزمان والمكان , وربما البيئة , أحيانا يقف بعض هؤلاء الشهود وقد عجزوا عن استيعاب التغيرات في مجتمعهم ولا يصدقون أنهم يعيشونها , فذاكرتهم مازالت تختزن الكثير من الصور للماضي القريب والذي من المؤكد أن جيلهم المعصر من الشباب لن يصدقوا أنها كانت فعلا وتيرة حياة حتمية , التاريخ كائن حي يتغير ويتفاعل وربما أحيانا يخضع للمتغيرات التي يفرضها البشر سواء عن قصد أو بشكل تلقائي وتطوري , التاريخ لا يشيخ هو دائما شباب ويستمد شبابه ونظارة وجوده من الأجيال التي يحتضنها حقبة بعد حقبة , هو قد يمرض وتصيبه لوثة من حماقات البشر ربما , ولو قُدر له أن يتحدث لاستاء من بعض تلك المتغيرات خاصة التي تصيب الأخلاق بالتشوه والشذوذ , فكثير من الفضائل والتصرفات النبيلة والتي كانت يوما يختص بها نبلاء القوم وما يُعرف بأخلاق الفرسان , أصبحت تخضع لاعتبارات حضارية بدأت تفرض نفسها مع كل حركة للتاريخ نحو المستقبل , وكل التشوهات الأخلاقية على اختلاف أنواعها من قتل وسرقة وكراهية وعنصرية وتدمير روح الإنسان وربما الشعوب أصبحت تخضع لاعتبارات جديدة , فأصبح قتل الشعوب يسمى سياسة , وقتل الفرد يسمى جريمة , وتجويع البشر يسمى اقتصاد , وسحق العمال والبسطاء يسمى ظروف العمل , من يقف في منتصف عجلة التاريخ يقف مصعوقا لتلك الحياة التي اضمحلت أمام عينيه وهو من كان أحد أبطالها ذات يوم , يراقبها وهي تبتعد بملامحها الباهتة شيئا فشيئا حتى تتحول لصورة أثيرية يكاد أنه لن يصدق أنه عاشها ذات وقت , ومع مراقبته لعجلة التاريخ بدأ يفطن أن حاضره قريبا سيصبح صفحات باهتة وكأن كل شيء مجرد شريط سينمائي يمر بذاكرته وهو مستلقي لا يملك من أمره شيئا , لكل منا وقفة مع نهاية التاريخ الذي يعرفه , وكأنه رفيق درب ولا بد من وداعه , هو مجرد جزء من أعواد العجلة الكبرى للتاريخ ولن يوقف فناؤه حركة تلك العجلة .
ذات وقت ستصبح كل الحكايات التي تكتبنا وعشناها هي مجرد قصص خيالية يستمع إليها أبناء اليوم غير مصدقين وربما غير مبالين بتلك الخرافات التي عشناها هباء لا يهتمون به , ألم نكن نسمع ممن عاشوا قبلنا عن قطع الصحاري والأودية على ظهور الجمال والخيول والحمير وحتى على الأقدام , وكنا نتعجب كيف تحملوا تلك المصاعب وقاوموا قسوة الحياة ؟ كنا نظن ونحن في مقتبل العمر أننا بالنسبة لهم نعيش عيش الملوك رغم بساطة تلك الحياة مع واقع اليوم , ولكن ماذا عن الغد بالنسبة للواقفين في منتصف المسافة بين الماضي والمستقبل ؟
هل يتقبل أبناء اليوم فكرة أننا عشنا بمعزل عن التقنية والأنترنت والجوالات والأطباق الفضائية وحتى التلفزيون , هل يتصورون أو يصدقون أننا لم نعرف مكيفات الهواء ولا نحلم حتى بتملك سيارة قديمة مهترئة , وفي وجه أخر هل يمكن أن نتخيل ما يمكن أن يخبئه المستقبل من صفحات هذا التاريخ من قفزات تقنية وحضارية بنفس الوتيرة التي حملتنا من الماضي للحاضر ؟
ماذا لو نقل أبناء اليوم ذات المشاعر التي حملناها ونحن نقف في منتصف التاريخ لأبنائهم غدا , ماذا لو عاشوا ذات التغيرات التي عشناها وعاشت كحكايا خرافية بين ماضينا وحاضرنا لا نكاد نصدقها ؟
والأهم من ذلك , ما القدر الذي سيربطهم بمنظومة الأخلاق والدين والأسرة , وما الذي سيشكل سيطرتهم على الحاجات الأساسية المادية ؟
هل ستتناغم خطواتهم مع تناغم عجلة التاريخ , هل سيسبقونها أم تسبقهم ؟
هل ستسحقهم حتى يقدموا لها قرابين الطاعة والخضوع ؟
ورغم اختلاف الأزمان سيظل الأجداد ينقلون القصص الخرافية لما كانوا عليه , وسيظل الأباء يمارسون ذات الشيء مع الأبناء وهم ينقلونها للأبنائهم وهكذا , فلن نتوقف نحن عن دهشة التغيير , ولن تكف عجلة التاريخ عن الدوران .
-
adelmolehhttp://adelansare6.blogspot.com/
التعليقات
وأنا أعترف بأني لن أتوقف عن تلك الدهشة المصاحبة لقراءتي لكل ما تكتب.
مقال رائع يستحق القراءة.