يوميات كاتب في مركز المعلومات
كانت تلك المرة الأولى التي يبحث فيها عن وظيفة بعد استقراره بشكل نهائي في المغرب ، فبعد أن قضى بضع سنوات في تجارة أسرته الصغيرة ، قرر بينه و بين نفسه أن يبحث له عن وظيفة يستعمل فيها اللغة الألمانية التي خاف عليها الضياع ، كأنما كانت هي وصلة الأمان بينه و بين ما عاشه في بلاد الجرمان ، و تجاربه الذيذة هناك .. و كان في الحقيقة يسائل نفسه دائما ، عن ماهية حياته هنا في بلاد لا تقدر مواطنيها ، بلاد تأكل أولادها كما تأكل العقارب أحباءها .. كانت ألمانيا ، في وجدانه ، كالزهرة الفواحة ، تنتج في كل يوم نسائم حبيبة ، كان في كل يوم من السنوات التي قاربت السبع هنا في بلاد المغرب الأقصى ، يسافر وجدانيا إلى ألمانيا ، فوهة بركان إبداعه و كتاباته ..
كان اليوم يوم خميس ، من صيف 2016 ، و كان اليوم حارا ، حينما تلقى مكالمة هاتفية من شركة متعددة الجنسيات ، كان قد قدم أوراقه و سيرته الشخصية إليها طمعا في وظيفة ، مكالمة كانت كالماء البارد فرح لها قلبه ، فبغض النظر أن الأمر لم يتطلب منه مجهودا كبيرا للبحث عن وظيفة ، كانت فرحته لا توصف ، لأنه تلقى عرضا للعمل في مركز للمعلومات ، باللغة الألمانية .. لم يتردد في قبول العرض و هرول إلى مقر الشركة التي تتواجد في شبه مدينة شركات تستقر في أحد أحياء الدار البيضاء ، حاملا معه أوراقه ، و سيرته الذاتية ، و كثيرا من أمل أن يبدأ حياة جديدة ، تصله ببلاده الحبيبة التي سكنت قلبه ، بلاد الجرمان .
حينما وصل إلى مجمع الشركات ذلك ، سرت في جسده قشعريرة لطيفة ، كان المجمع فخما فعلا ، عبارة عن مساحة شاسعة من المساحات الخضراء ، ذكره أول ما ذكره بشيء من ألمانيا ، حيث الشركات تجاور الحدائق الغناء ، و كانت الشركات تصطف جنبا إلى جنب في تناسق و تشابه ، بنايات إسمنتية بواجهات زجاجية متشابهة ، و بعض من مقرات الأبناك ، بالإضافة إلى فندق مصنف يقبع في جانب بعيد ، استنتج منه ، أن كثيرا من زوار الشركات الأجانب يفضلون المكوث فيه لقربه من مكان عملهم كان الموعد في المبنى الثاني عشر ، و تطلب منه الأمر عشر دقائق من المشي للوصول إليه ..
كان انطباعه الأول عن هذا المكان أنه مكان منفصل تماما عن البلاد ، فيه كثير من أجانب ، و أكثر من الشباب الذي يشتغل في الشركات المختلفة ، كان فيه شيئ من القارة العجوز ، و شد انتباهه ، تحرر العاملين فيه من قيود الأخلاق و التقاليد تماما كألمانيا ، حيث شاهد بأم عينيه ، كيف أن الفتيات يدخن جنبا إلى جنب الذكور ، بالإضافة إلى ملابس تحيل شيئا ما على العري .. فلولا أن كان اعتاد هذه المناظر في بلاد ألمانيا ، كان شعر بمقت كبير ، و لكنه أسرها في نفسه ، لأن ألمانيا ، لم تنجح طيلة هذه السنوات في هزم تلك الحشمة التي تسكن نفسه .
دخل باب المبنى رقم 12 ، استقل المصعد للطابق رقم 1 ، حينما خرج من المصعد ،وجد امامه مكتبا يجلس وراءه رجل أمن خاص ، تبين من ملامح وجهه أنه شخص لا علاقة له بالبشاشة ..
ـ السلام عليكم
نطر إليه نظرة فاحصة ، و أجاب بعجرفة مبينة :
ـ و عليكم السلام ! هل من خدمة ؟
أوه ، يا ربي ما هذه البداية السعيدة ، خاطب نفسه بصوت غير مسموع ، ابتسم و قال :
ـ أنا هنا من أجل مقابلة عمل ، تلقيت اتصالا بالامس ، و طُلب مني أن أتي هنا في الثامنة و النصف
ـ هل معك بطاقة تعريفك ؟
ـ تفضل يا سيدي ، هي ذي !
تفحصها يعينين مزمجرتين ، جعلته في مظهر أكبر من سنه الذي يتراوح بين العشرين و الثلاثين ، ثم رد عليه بصوت يغلب عليه محاولة الحزم :
ـ حسن ، انتظرني هنا !
أدلف إلى باب خارجي يفتح ببطاقة ممغنطة ، فتحه ، ثم ولج .
في الدقائق العشرين التي تلت ولوجه ، كان التطفل يسيطر على يعقوب ، و استسلم له كما تستسلم قطة لأشعة الشمس ، بدأ في اكتشاف المكان ، فرمق غرفة كبيرة عبارة عن مكان لتناول الوجبات ، اصطف في أوله صندوقان أوتوماتيكيان كبيران ، بداخله حلويات ، و بسكوت ، و شوكولاطة ، ثم كان الآخر للقهوة و الشاهي .. ثم اصطفت طاولات على مساحة ليست بالهينة .. و ألات المايكروويف مصفوفة ، من أجل تسخين الأكل ، ثم ثلاجة كبيرة .
خمن بينه و بين نفسه أنه مطعم الشركة ، و كان فخما فعلا .. عاد إلى جانب الباب المخناطيسي ينتظر ، حتى رمق رجل الأمن آت من الداخل ، فابتعد حتى اقترب من مكتبه ، كأنه لم يتحرك من هناك .. خرج رجل الأمن ، ثم قال له : حسنا ، تعال مععي ، و لكن بطاقة تعريفك ستبقى معي هنا إلى أن تخرج !
ـ حسنا لا مانع عندي ..
تبعه ، ولجا إلى الداخل، اجتازا بهوا نصف طويل ، ثم اسلمه إلى كنبة في صالة من صالات الإنتظار و قال له انتظر هنا ، و سياتي إليك المسؤول عن الموارد البشرية من أجل المقابلة
ـ حسن شكرا إلى اللقاء .. أردف يعقوب !
كانت صالات الإنتظار أشبه بغرف صغيرة منفصلة عن بعضها اصطفت في شكل منفصل ، ةضع يعقوب أوراقه على الطاولة ، و لم تلبث أن جاءته مسؤولة عن الموارد البشرة ، رمقها تخرج من الباب نحوه ، فغض بصره ، ثم خاطبته قائلة :
ـ هل أنت السيد يعقوب ؟
ـ نعم سيدتي أنا هو ، و هذه سيرتي الذاتية ..
ابتسمت ضاحكة و أردفت :
ـ سبقتني ,, كنت أود طلبها منك ، همم حسنا ، أنت على موعد مع السيد عمر مهران سيكون هنا خلال ساعة من الآن ، و سيلتحق بك مرشح آخر بعد قليل !
ـ أوه شكرا جزيلا لك ، حسنا سأنتظر هنا !
ـ هل تريد شيئا تشربه ؟
ـ لا بأس ، أنا بخير الآن ، سأطلب إذا أردت !
ـ لا تتردد أرجوك !
تركت في نفسه راحة ، كانت سيدة جاوزت الثلاثين إذا لم يخنه حدسه .. كلمته بلباقة فائقة ، طردت إحساس الغربة الذي سيطر عليه حينما دخل !
لم يلبث المرشح الذي تحدثت عنه السيدة أن حضر ، رافقته المسؤولة عن الموارد البشرية إلى الصالة التي كان يجلس فيها ، و خاطبته قائلة :
ـ هذا هو المرشح الذي حدثتك عنه سيد يعقوب ، اسمه عز الدين حُجة
ـ أهلا أهلا سيد عز الدين ، كيف حالك ، خاطبه يعقوب مصافحا
ـ أهلا سيد يعقوب ، الشرف لي !
تركتهما السيدة المسؤولة ، واعدة إياهما باقتراب موعد المقابلة ، فانتهز يعقوب بحسه المتطفل الفرصة و فتح باب الحوار مع السيد عز الدين ، في محاولة للتعرف عليه أكثر .. و كان عز الدين يضرب إلى الطول مع ثخن خفيف فيه ، و شعر كثيف و وجه يحوي قدرا لا بأس به من الجمال
ـ أهلا سيد عز الدين ، أين تعلمت اللغة الألمانية ؟
ـ في الحقيقة ، درست المعلوميات في ألمانيا ، و قضيت هناك 6 سنوات ، و أنت ؟
ـ أنا أيضا درست في ألمانيا ، درست الصحافة و الإعلام .
ـ أوه شيئ جميل ، و لماذا عدت إلى هنا ؟
ـ ظروف شخصية فقط ، المرء يتبع رزقه في أي مكان في العالم ، غير أنني أحب ألمانيا حبا جما ! و أنت ؟
ـ في الحقيقة أنا عدت إلى هنا من أجل الإعتناء بوالدتي ..
ـ بارك الله بك من رجل ! جميل أن يعتني الإنسان بوالديه ، أنا أيضا توفي والدي حينما كنت في ألمانيا
ـ آسف من أجلك سيد يعقوب .
ـ لا عليك ، ذلك كان قدر الله ..
كان الحوار شيقا جدا ، دام قرابة أربع ساعات انتظراها ، لم يحسا بمرورها ، و كان عيب السيد عز الدين الوحيد أنه كان يدخن بشكل يميل إلى الشراهة ، و لم يفت يعقوب أن ينصحه بأن يوقف التدخين ، فكان السيد عز الدين يجيب بأنه سيحاول !
تأخر موعد المقابلة 4 ساعات ، و كانت المسؤولة عن الموارد البشرية تعتذر بشدة كل مرة تأتي فيها ، و دعتهما إلى تناول مشروب على حسابها الخاص .. و قالت بأن السيد عمر مهران واجه طارئا أثناء قدومه ..
جاء السيد عمر مهران أخيرا ، و طلبت منا المسؤولة عن الموارد البشرية أن نلج إلى قاعة كبيرة و ننتظر دخول السيد عمر إلينا من أجل إجراء المقابلة ، التي فهم يعقوب أنها ستكون ثنائية ..
و كان يعقوب ينتظر بشغف ، هوية المحاول ، أتى السيد مهران ، و دخل ، كان شابا في مثل سنيهما ، بدا في الثالثة و الثلاثين أو أكبر بسنة .. يرتدي لباسا رياضيا ، دل أول ما دل على تواضعه ، جلس على كرسي مقابل لهما ، ثم قال معتذرا :
ـ أرجو أن تتقبلا اعتذاري ، فأنا للتو عدت من إجازتي السنوية ! هل تعرفتما إلى بعضكما البعض ؟ فرد يعقوب بسرعة :
ـ نعم ، كانت 4 ساعات كافية لنا أن نتعرف على بعضنا بشكل واف ..
ابتسم السيد عمر مهران ضاحكا و قال بعد ان شعر بمكر يعقوب :
ـ اعتذر جدا منكما ، فكما أسلفت ، فهذا آخر يوم لي في إجازتي ، و في الحقيقة ، أتيت إليكما مباشرة بعد وصولي من السفر فاعذرا أرجوكما طريقة لباسي
قال يعقوب و السيد عز الدين : لا عليك ، ثم أكمل يعقوب ، في الحقيقة لا يظهر من طريقة كلامك و لباسك أنك شخص متعجرف ، و هذا شيء مشجع جدا !
ـ حسن سأقدم نفسي : أنا السيد عمر مهران ، مهندس معلوميات ، و أشتغل مسيرا لمركز دعم الإتصالات في هذه الشركة ، لي ولدان و بنت ، و سأتكلف اليوم بعملية اختباركما من أجل الحصول على هذه الوظيفة ، نحن في الحقيقة بحاجة إلى أثر من شخصين ، ليرتاح قلباكما ، فالأمر هنا لا يتعلق بتاتا بمباراة اختبار لشخص واحد بل هي عملية تعارف !
ـ جميل جدا قال يعقوب
ـ الوظيفة عبارة عن رجلي دعم فني للمعلوميات ، كل ما يتعلق بالحاسوب ، و مشاكل الشركة التقنية و طلبات المستخدمين المتعلقة بالمعلوميات ، ستكونان أنتما المسؤولان عن تلبيتها ، و طبعا باللغة الألمانية! غير أن هذا لا يمنع أنكما ستحتاجان اللغة الإنجليزية خاصة فيما يتعلق بالأعطاب الكبيرة التي ستحتاج تدخل مهندسين أجانب في أمريكا ، لهذا اعدكما أنه و في حالة تردي اللغة الإنجليزية لديكما ، أعدما أنها ستتحسن خلال الستة أشهر الأولى من بداية عملكما ، لسببين ، أولهما أنها لغة المعلوميات الأولى ، و الثاني لأن المجموعة التي ستعملون ضمنها تضم أناسا ذوو طبع جميل و أخلاق طيبة فلا تكونا من الخائفين !
أدخل كلام السيد مهران سلاما نفسيا على قلبه ، أغمض عينيه لثوان ، و حمد الله أن السيد مهران ، يقترب بشكل كبير من معاملة الألمان ، و طريقة تعاملهم مع مستخدميهم ، لم يشعر ولو للحظة واحدة في حديثه المتواصل بشيء من العجرفة و التطاول ، كان على العكس لطيفا ، و تحدث معهما كأنما يتحدث مع أصدقائه ، أو خلانه ، الشيء الذي شجع يعقوب على التحدث بإسهاب عنه ، و عن حياته ، عن تجاربه في ألمانيا ، حتى قال السيد مهران للسيد عز الدين الذي كان صموتا بعض الشيء :
ما الذي حدث يا سيد عز الدين ، هل لأن السيد يعقوب كاتب صحفي يجب أن يستأثر بالحديث وحده ،
فرد عز الدين ضاحكا :
ـ كلا ، و لكنني أشعر بالإرتياح و أفضل أن أستمع لك و له ، بالرغم من أنه قص علي ما عاشه قبل أن تأتي
و كان السؤال الذي يتبادر إلى ذهن يعقوب و يفرض نفسه عليه هو كيف لكاتب لا علاقة له بالمعلوميات و كان أدبيا أن ينجح في هذه الوظيفة ، و رمقه السيد مهران شاردا فسأله عن سبب شروده فقال :
ـ كنت أتساءل و نفسي يا سيد عمر ، كيف لشخص مثلي لا علاقة له بالمعلوميات أن ينجح في هذه الوظيفة
ابتسم السيد مهران و قال مخاطبا يعقوب :
ـ اعلم سيد يعقوب ، أن الإرادة تصنع كل شيء ، و إذا أردت الوصول ستصل ، و أظن من تجاربي السابقة في مقابلات العمل ، أن لديك القابلية للتعلم ، و ستنجح إذا لم يخني حدسي ! حسنا سيد يعقوب و عز الدين ، أظن أنني معجب بكما ، و أظن أنني سأختاركما ، و قد حصلتما على موافقتي المبدئية ، في انتظار الموافقة الكلية بعد أن تجتازا اختبارا للغة الألمانية ستقوم به عميلة للشركة من ألمانيا ، ستتصل بكما خلال أسبوع من الآن ، و بعدها مباشرة إذا تم قبولكما سنبدأ لأن الوقت يداهمنا و اعلما أنني متحمس جدا لكما .. أما ما يخص الأجر ، فأظن أننا لن نختلف ..
ودعهما ، خرج يعقوب من المبنى ، و نفس جديد من أمل يسري في عروقه ..
الحلقة القادمة : مركز المعلومات .. عالم جديد
-
يعقوب مهدياشتغل في مجال نُظم المعلومات .. و اعشق التصوير و الكتابة