نظرت لها نظرة الغريق , الضائع , المنطفئ , الذي وجد في بسمتها قوة عجيبة كفيلة بأن تمنحه قدراً من الشجاعة لمواجهة ما تبقى لها في زمنها الفاني ! , أغدقت عليها بعطفها , حتى وإن لم تجد منها سوى أقدام ضعيفة لا تقوى على الإتزان , وخطوات مُذبذبة لا تجرؤ على رسم أناملها الدقيقة بخطوة أخرى تستكمل بها مسيرتها الصغيرة , لم تجد منها سوى إبتسامة , كلما تسقط .. تطلق صرخات من البهجة حولها وكأنها لم تسقط بل إرتفعت للسماء ولامست قمراً ونجوماً بل وسبحت في فضاء الكون بأسمى معاني الحرية , تمايلت بين كواكبه وأخذت تهرول بعيداً عن شمسه وكأنها تلهو مع حرارتها التي لم تعي أنها محرقة , فقط تلهو ببرائتها المعهودة ..
أشاعت المرح , أفاضت على قلوب ذويها بالمحبة والبراءة ولم تبخل عليهم ببعض مشاعر طفولتهم التي سحقها الزمن دون رحمة ! ..
وجدوا فيها السلام , السلام الذي إفتقدوا معناه لدهور , فعالم البشرية أصبح موحشاً , أصبح كالغربة وأنت فيه الباحث عن وطنك , تارة تفقد أملك في العثور عليه , وتارة تتيقن أن الوصول آت لا محالة , ولكنه غربة تقتنص إنسانية من فيه وتلتهمها بمنتهى القسوة ! ..
دللتها , تقاذفتها , ومع ذلك هي لم تتركها تواجة الموقف وحدها , هي أبسط من أن تواجة موقف كهذا دون مساعدة , دون تشجيع وثناء على نجاحها في تقليد تصرفاتهم الهزلية , هي لا تعي أنها في مواجهة من الأساس ! , ولكن رؤيتها تتضح رويداً رويداً , نعم .. أيقنت الآن , فما هي إلا محاولة , محاولة لإسترجاع الحياة بداخل البشرية حولها , فقد أيقنت أنها السبب , مع من أشعلت الشيخوخة فيه نيرانها والتهمت شبابه هي السبب في ترميم ما حُطم فيه , وبعد أن تمادت تعرجات وتشققات العمر في تبديل وجهه , أصبحت السبب في إستعاده جاذبية ملامحه من جديد , وأما عن عظامه المتهالكة فلا مانع إن جعلته يتراقص كنسمات ربيعية دون ان يخشى أن تُكسر عظامه بفعل أمراضه المزمنة , تبدل لبشري يسير بفعل الحياة بعد أن كان يسير بفعل تأثير أدويته المرممة لشقائه ! ..
وأما عن الأخرى , التي لم يتمكن العجز منها بعد , التي لا تزال ترتشف قهوتها دون أن تخشى رؤية رجفة يديها , التي تلهو معها ولا تخشى نسيان هويتها بين اللحظة والأخرى , لم يتمكن المرض من سحقها , هي مفعمة بالحياة ولكنها لا تتذوقها حق التذوق ! , فقط تتمايل بخفة دون أن تشعر بوقع خطواتها , تنسجم مع إنضباط وهدوء نبض قلبها الذي لم يعتريه الإضطراب بعد وكأنه رسالة مبهمة بقرب موعد الرحيل , هي المفعمة بالشباب ولكنها عادت معها إلى المعنى الحقيقي للحياة , لقد استعادت برائتها حينما نظرت لها , حينما لامست كفوفها التي لم يتضح بها كفوف حتى الآن ! , وجدت عمرها الفائت الذي هو أقل من أن يُعد , وعمرها القادم الضائع إن لم تحياه بحق ..
وكأنهم وجدوا بها النجاة من قسوة لحظات عمرهم , عُمر أحدهم الذي أصبح على المحك , وبين ليلة وضحاها يصبح سراباً , ذكرى , وعُمر الأخر الذي لم يُكتب منه سوى سطور قليلة , ولكنها منحتهم بدقائق بسيطة متعة اللحظة , قوة الإستمرار , الأمل الذي لطالما يأسوا في العثور عليه , الذي قضت فيه الشابة أياماً تبحث عن معنى وجودها حتى تبدل سواد شعرها إلى شيب يتخلله بعض الوقار , وبسمتها الناعمة إلى ثغر منكمش لا تعرف بسمته من سخطه ! , أدركت أنها الهبة , التي قُدمت لهم حتى يتنسموا الحياة قليلاً , أدركت أنها الفجوة الزمنية التي تُعيدهم إلى البداية , بدايتهم الحقيقية وليست بدايتهم التي تفرضها عليهم الحياة المزيفة ..
بل أدركت معنى أكبر .. أنها ترى صورة أخرى لها , بأعمار متباينة , بحيوات مختلفة , بمشاعر متضاربة هي ترى ذاتها أمامها ولكنها لا تود أن تنغمس بهم , لا تود أن تخرج من ذاتها البريئة هذه , أرادت أن تكون وتبقى هكذا للأبد , ولكن ما لها في هذا حيلة , فثمة عقارب لساعة حائطهم البالي , مهما أطال سكونه فلن يجد مفراً من المضي , ولكنها لم تشغل عقلها البدائي بكل هذا , ليس أمامها الآن سوى إتمام مهمتها على أكمل وجة .. أن تُشرق شمس الحياة بعتمة ليل قلوب هؤلاء البشر .. الغارقون في بؤسهم ! ..
-
نورا محمدكاتبة ومؤلفة للقصص القصيرة ..